فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)}.
عطف على جملة {الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا} [الأعراف: 201] عطفَ الضد على ضده، فإن الضدية مناسبة يحسن بها عطف حال الضد على ضده، فلما ذكر شان المتقين في دفعهم طائِف الشياطين، ذُكر شان اضدادهم من أهل الشرك والضلال، كما وقعت جملة: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} [البقرة: 6] من جملة {هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب} في سورة البقرة (2، 3).
وجعلها الزّجاج عطفًا على جملة {ولا يستطيعون لهم نصرًا ولا لأنفسهم ينصرون} [الأعراف: 192] أي ويمدونهم في الغي، يريد أن شركاءهم لا ينفعونهم بل يضرونهم بزيادة الغي.
والإخوان جمع أخ على وزن فعلان مثل جمع خَرَب ووهو ذكر بزيادة الغي.
والإخوان جمع أخ على وزن فعلان مثل جمع خَرَب وهو ذكر الحُبارَى على خربان.
وحقيقة الأخ المشارك في بنوة الأم والأب أو في بنوة أحدهما ويطلق الأخ مجازًا على الصديق الودود ومنه ما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وقول أبي بكر للنبيء صلى الله عليه وسلم لما خطب النبي منه عائشة «إنما أنا أخوك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أنت أخي وهي حلال لي» ويطلق الأخ على القرين كقولهم أخو الحرب، وعلى التابع الملازم كقول عبد بني الحسحاس:
أخُوكم ومولى خَيْركم وحليفُكم ** ومن قد ثَوى فيكم وعاشركم دَهْرًا

أراد أنه عبدهم، وعلى النسب والقرب كقولهم: أخو العرب وأخو بني فلان.
فضمير {وإخوانهم} عائِد إلى غير مذكور في الكلام، إذ لا يصح أن يعود إلى المذكور قبله قريبًا: لأن الذي ذكر قبله {الذين اتقوا} فلا يصح أن يكون الخبر، وهو {يمدونهم في الغي} متعلقًا بضمير يعود إلى {المتقين}، فتعين أن يتطلب السامع لضمير {وإخوانهم} معادا غير ما هو مذكور في الكلام بقربه، فيحتمل أن يكون الضمير عائدًا على معلوم من السياق وهم الجماعة المتحدث عنهم في هذه الآيات أعني المشركين المعنيين بقوله: {فتعالى الله عما يشركون أيشركون ما لا يخلق شيئًا} إلى قوله: {ولا يستطيعون لهم نصرًا} [الأعراف: 190 192] فيرد السامع الضمير إلى ما دل عليه السياق بقرينة تقدم نظيره في أصل الكلام، ولهذا قال الزجاج: هذه الآية متصلة في المعنى بقوله: {ولا يستطيعون لهم نصرًا ولا أنفسهم ينصرون} [الأعراف: 192]، أي وإخوان المشركين، أي أقاربهم ومن هو من قبيلتهم وجماعة دينهم، كقوله تعالى: {وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض} [آل عمران: 156] أي يُمد المشركون بعضهم بعضًا في الغي ويتعاونون عليه فلا مخلص لهم من الغي.
ويجوز أن يعود الضميران إلى الشيطان المذكور آنفًا باعتبار إرادة الجنس أو الأتباع، كما تقدم، فالمعنى وإخوان الشياطين أي أتباعهم كقوله: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} [الإسراء: 27] أما الضميران المرفوعان في قوله: {يُمدونهم} وقوله: {لا يُقصرون} فهما عائدان إلى ما عاد إليه ضمير {إخوانهم} أي الشياطين، وإلى هذا مال الجمهور من المفسرين، والمعنى: وإخوان الشياطين يمدهم الشياطين في الغي، فجملة يمدونهم خبر عن {إخوانهم} وقد جرى الخبر على غير من هو له ولم يُبرَز فيه ضميرُ من هو له حيث كان اللبس ما مونا وهذا كقول يزيد بن منقذ:
وهُم إذا الخيلُ جالوا في كواثبها ** فَوارسُ الخيل لا مِيلٌ ولا قَزَم

فجملة جالوا خبر عن الخيل وضمير جالوا عائد على ما عاد عليه ضمير وهم لا على الخيل.
وقوله فوارس خبر ضمير الجمع.
ويجوز أن يكون المراد من الإخوان الأولياء ويكون الضميران للمشركين أيضًا، أي وإخوانُ المشركين وأولياؤُهم، فيكون الإخوان صادقًا بالشياطين كما فسر قتادة، لأنه إذا كان المشركون إخوان الشياطين، كما هو معلوم، كان الشياطين إخوانًا للمشركين لأن نسبة الأخوة تقتضي جانبين، وصادقًا بعظماء المشركين، فالخبر جار على من هو له، وقد كانت هذه المعاني مجتمعة في هذه الآيات بسبب هذا النظم البديع.
وقرأ نافع، وأبو جعفر: {يُمدونهم} بضم الياء وكسر الميم من الامداد وهو تقوية الشيء بالمدد والنجدة كقوله: {أمدكم بأنعام وبنين} [الشعراء: 133]، وقرأه البقية: {يَمُدونهم} بفتح الياء وضم الميم من مد الحبل يمده إذا طوله، فيقال: مد له إذا أرخى له كقولهم: مد الله في عُمرك وقال أبو علي الفارسي في كتاب الحجة عامة ما جاء في التنزيل مما يستحب أمددتُ على أفعلت كقوله: {أن ما نُمدهم به من مالٍ وبنين} [المؤمنون: 55] {وأمددناهم بفاكهة} [الطور: 22] و{أتمدونن بمال} [النمل: 36]، ومَا كان بخلافه يجيء على مَدَدْت قال تعالى: {ويَمُدهم في طغيانهم يعمهون} [البقرة: 15] فهذا يدل على أن الوجه فتح الياء كما ذهب إليه الأكثر من القراء والوجه في قراءة من قرأ يُمدونهم أي بضم الياء أنه مثل {فبشرهم بعذاب اليم} [آل عمران: 21] أي هو استعارة تهكمية والقرينه قوله في الغي كما أن القرينة في الآية الأخرى قوله: {بعذاب} وقد علمت أن وقوع أحد الفعلين أكثر في أحد المعنيين لا يقتضي قصر إطلاقه على ما غلب إطلاقه فيه عند البلغاء وقراءة الجمهور {يمدونهم} بفتح التحتية تقتضي أن يعدى فعل {يمدونهم} إلى المفعول باللام، يقال مد له إلا أنه كثرت تعديته بنفسه على نزع الخافض كقوله تعالى: {ويَمدّهم في طغيانهم} وقد تقدم في سورة البقرة (15).
والغي الضلال وقد تقدم آنفًا.
و{في} من قوله: {يمدونهم في الغي} على قراءة نافع وأبي جعفر استعارة تبعيه بتشبيه الغي بمكان المحاربة، وأما على قراءة الجمهور فالمعنى: وإخوانهم يمدون لهم في الغي من مَد للبعير في الطول.
أي يطيلون لهم الحبْل في الغي، تشبيهًا لحال أهل الغواية وازديادهم فيها بحال النعم المطال لها الطول في المرعى وهو الغي، وهو تمثيل صالح لاعتبار تفريق التشبيه في أجزاء الهيئة المركبة، وهو أعلى أحوال التمثيل ويقرب من هذا التمثيل قول طرفة:
لعمرك أن الموت ما أخطأ الفتى ** لكالطِوَل المُرْخَى وثنْياه باليد

وعليه جرى قولهم: مد الله لفلان في عمره، أو في أجله، أو في حياته والإقصار الامساك عن الفعل مع قدره الممسك على أن يزيد.
و{ثم} للترتيب الرتبي أي وأعظم من الإمداد لهم في الغي أنهم لا يألونهم جهدًا في الازدياد من الإغواء، فلذلك تجد إخوانهم أكبر الغاوين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)}.
ونحن حين نتتبّع كلمة {يمدونهم} في القرآن، نجدها مرة {يمدونهم} ومرة يمددكم كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ...} [نوح: 12].
ونعلم أن الشياطين لن تترك المؤمنين في حالهم، بل تظل في محاولة الغواية، وتحاول الشياطين غواية المؤمنين الطائعين أكثر من محاولتهم غواية العاصين؛ لأن العاصي إنما يعاون الشيطان باتباعه شهوات نفسه، ولا يقصر العاصي أو الشيطان في ذلك، بل يحاول العاصي أو الشيطان غواية المؤمنين وأقصر من مادة قصر، أي أنه قادر أن يطول المسافة لكنه يقصرها. وهكذا إلحاح الشياطين لغواية المؤمنين.
فالشيطان- كما جاء في القرآن- يعترف بموقفه من ملاحقة المؤمنين بالوسوسة وتزيين المعاصي. {... لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16].
والشيطان يعلم أن من لا يتقي الله لا يحتاج إلى تزيين أو غواية؛ لأنه يرغب ويميل للمعاصي والعياذ بالله؛ لذلك لا يبذل الشيطان لغوايته جهدا كبيرًا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي}.
في هذه الآيةِ أوجهٌ:
أحدها: أنَّ الضمير في: {إخوانهم} يعودُ على الشَّياطين لدلالةِ لفظ الشيطانِ عليهم، أو على الشَّيطان نفسه؛ لأنَّهُ لا يُراد به الواحدُ، بل الجِنْسُ.
والضميرُ المنصوبُ في يَمُدُّونهُم يعودُ على الكُفَّارِ، والمرفوعُ يعود على الشياطين أو الشيطان كما تقدَّم، والتقديرُ: وإخوان الشياطين يمدُّهم الشيطان، وعلى هذا الوجه فالخبرُ جارٍ على غير من هو له في المعنى، ألا ترى أنَّ الإمداد مسند إلى الشياطين في المعنى وهو في اللفظ خبر عن إخوانهم ومثله: [البسيط]
قَوْمً إذا الخَيْلأُ جَالُوا في كَواثبِهَا

وقد تقدم البحث في هذا مع مكي وغيره من حيث جريانُ الفعل على غير من هو له، ولم يَبْرُزْ ضمير.
وهذا التأويلُ الذي ذكرناهُ: هو قول الجمهور وعليه عامة المفسِّرين.
قال الزمخشريُّ: هو أوجهُ؛ لأنَّ إخوانهم في مقابلة: {الَّذينَ اتَّقَوا}.
الثاني: أنَّ المراد بالإخوان الشياطين، وبالضَّمير المضاف إليه: الجاهلُون، أو غير المتَّقين لأن الشيء يدلُّ على مقابله، والواو تعودُ على الإخوان، والضميرُ المنصوبُ يعود على الجاهلين، أو غير المتَّقين؛ والمعنى: والشياطين الذين هم إخوانُ الجاهلين أو غير المتقين يَمُدُّون الجاهلين أو غير المُتَّقين في الغيِّ، والخبر في هذا الوجه جارٍ على من هو لهُ لفظًا ومعنى، وهذا تفسير قتادة.
الثالث: أن يعود الضميرُ المجرور والمنصوب على الشياطين، والمرفوع على الإخوان وهم الكُفَّارث.
قال ابنُ عطيَّة: ويكون المعنى: وإخوان الشَّياطين في الغيِّ بخلاف الإخوة في اللَّهِ يَمُدُّون الشَّياطين أي: بطاعتهم لهم وقبولهم منهم، ولا يترتَّب هذا التَّأويل على أن يتعلَّق في الغيِّ بالإمدادِ؛ لأنَّ الإنسَ لا يغوون الشياطين، يعني يكون في الغيِّ حالًا من المبتدأ، أي: وإخوانهم حال كونهم مستقرِّين في الغيّ، وفي مجيء الحال من المبتدأ خلاف، والأحسنُ أن يتعلَّق بم تضمنه أخوانُهُمْ من معنى المؤاخاة والأخوة، وسيأتي فيه بحث لأبي حيان.
قال أبُو حيَّان: ويمكن أن يتعلَّق في الغيِّ على هذا التَّأويل بـ: يمدُّونهم على جهة السببية، أي: يمدُّونهم بسبب غوايتهم، نحو: دَخلَتِ امْرأةٌ النَّارَ في هرَّةٍ، أي: بسبب هرَّةٍ، ويُحتملُ أن يكون في الغيِّ حالًا، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي: كائنين في الغيّ، فيكون في الغيِّ في موضعه، ولا يتعلَّق بـ: إخوانهم وقد جوَّز ذلك ابن عطية.
وعندي في ذلك نظرٌ.
فلو قلت: مُطْعِمُكَ زيدٌ لَحْمًا، مُطْعِمُكَ لحمًا زيدٌ، فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر، لكان في جوازه نظر، لأنَّكَ فصلتَ بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معاص، وإن كان ليس أجنبيًا لأحدهما وهو المبتدأ.
قال شهاب الدين: ولا يظهر منعُ هذا ألبتة لعدم أجنبيته وقرأ نافع يُمِدُّونهُمْ بضم الياء وكسر الميم من أمدَّ والباقون: بفتح الياء وضم الميم، وقد تقدم الكلام على هذه المادة هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق في أوائل الكتاب [البقرة: 155].
فقيل: أمَدَّ ومَدَّ لغتان.
وقيل: مَدَّ معناه: جذب، وأمَدَّ معناه من: الإمداد.
قال الواحدي عامة ما جاء في التنزيل ممَّا يحمد ويتسحب أمددتُ على أفعلتُ، كقوله: {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] وقوله: {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ} [الطور: 22] {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل: 36] وما كان بخلافه فإنَّه يجيء على: مددت؛ قال تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] فالوجه هاهنا قراءة العامة، ومن ذمَّ الياء استعمل ما هو الخير لضده كقوله: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وقرأ الجحدريُّ: يُمَادُّونهُم من: مادَّهُ بزنة: فاعله، وقرأ العامَّةُ يُقْصِرُون من: أقْصَرَ، قال الشاعر: [الطويل]
لَعَمْرُكَ ما قَلْبِي إلى أهْلِه بِحُرْ ** ولا مُقْصِرٍ يَوْمًا فَيَأتِينِي بِقُرْ

وقال امرؤُ القيس: [الطويل]
سَمَا لَكَ شَوْقٌ بعدَ ما كانَ أقْصَرَا ** وحلَّتْ سُلَيْمَى بَطْنَ قَوٍّ فَعَرْعَرَا

أي: ولا نازع ممَّا هو فيه، وارتفع شوقك بعد ما كان قد نزع وأقلع، وقرأ عيسى ابن عمر، وابن أبي عبلة {ثُمَّ لا يَقصُرون} بفتح الياء مِن: قَصرَ، أي: لا يَنْقُصُونَ من قوله: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} [الأعراف: 192] وهو تكلف بعيد.
وقوله: {فِي الغيِّ} قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون متعلقًا بالفعل، أو بـ {إخوانهم} أو بمحذوف على أنه حال إمَّا من {إخوانهم} وإمَّا من واو {يَمُدُّونهُم} وإمَّا من مفعوله.
فصل:
قال اللَّيث: الإقصارُ: الكَفُّ عن الشَّيء، وأقْصَرَ فلانٌ عن الشَّيءِ يُقْصِرُ إقصارًا إذا كفَّ عنه وانتهى.
قال ابنُ عبَّاسٍ: ثُم لا يُقْصِرُون عن الضَّلالِ والإضلال، أمَّا الغاوي ففي الضَّلال، وأمَّا المغوي ففي الإضلال.
قال الكلبيُّ لكل كافر أخٌ من الشياطين يَمُدُّونهُمْ أي: يُطيلُون لهم في الإغواء حتَّى يستمرُّوا عليه.
وقيل: يزيدونهم في الضَّلالة. اهـ.